على الرغم
من تأثير العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا على الداخل الأمريكي، في ظل
ارتفاع أسعار الطاقة، وتزايد معدلات التضخم إلى مستويات غير معهودة منذ أربعة
عقود، وكذلك تداعيات تلك الحرب على نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في
نوفمبر 2022؛ فإن الولايات المتحدة قد تحقق مكاسب متعددة من تلك الأزمة، أيًّا
كانت نتائج الحرب الروسية الأوكرانية؛ ما جعل بعض المحللين يصفون تلك الحرب بأنها
بمنزلة “الكمين” الذي نصبته واشنطن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا؛
بهدف إنهاك موسكو سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وتتمثل أبرز المكاسب الأمريكية من
تلك الحرب في تزايد شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعد تراجعها عقب الانسحاب
الأمريكي من أفغانستان، وتحقيق واشنطن مكاسب اقتصادية من جراء العقوبات الغربية
على روسيا، وكذلك عزل روسيا دبلوماسياً، وتهميش التنافس مع الصين، وزيادة التقارب
الأمريكي الأوروبي، وأخيراً إشغال روسيا بتحديات محيطها الإقليمي، وخلق أزمات
متعددة الجوانب في الداخل الروسي. ولكن تلك المكاسب ستكون مرهونة بمستقبل تطورات
العمليات العسكرية الروسية، ومدى تماسك التحالف الغربي في تلك الحرب.
مكاسب مختلفة
تتمثل
أبرز المكاسب التي ستعود على الولايات المتحدة من وراء الغزو الروسي حتى الآن
للأراضي الأوكرانية –وبعضها مكاسب استراتيجية– فيما يأتي:
تحسن شعبية “بايدن” في الداخل الأمريكي: سيطرت الحرب الأوكرانية وتداعياتها على أجندة الإدارة الأمريكية؛ حيث حرص الرئيس جو بايدن على تقديم نفسه للأمريكيين والغرب على أنه القائد القوي الحكيم الذي فضح المؤامرة الروسية لغزو أوكرانيا قبل أن تقع، وفرض حصاراً محكماً حول موسكو، وأعاد هيبة التحالف الغربي، ودعم المقاومة الأوكرانية دون التورط في حرب مباشرة مع روسيا تفضي إلى صراع نووي أو اشتعال حرب عالمية ثالثة، بل يقود ضدها حرباً بالوكالة، تكلفتها زهيدة، فضلاً عن استفادته من العلاقة المثيرة للجدل بين “بوتين” والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي وصلت إلى مدح الأخير للرئيس الروسي، بعد اعترافه باستقلال “الدونباس”؛ لتشويه صورة “ترامب” الذي يفكر في خوض الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وكذلك النيل من حظوظ الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2022.
ولذلك
حاول الرئيس جو بايدن، خلال أول خطاب له عن حالة الاتحاد، بعد الحرب، أمام
الكونجرس، في 1 مارس 2022، صرف نظر الرأي العام الأمريكي عن كل الأزمات الداخلية
والخارجية التي كانت تقلقه، خاصةً حالة الإحباط الاقتصادي التي أدَّت إلى انخفاض
حاد في شعبيته بين الناخبين لتصل إلى 37%، وفقاً لاستطلاع شبكة “إيه بي سي”
الإخبارية قبيل الحرب الروسية على أوكرانيا، بل إنه عقب اندلاع الحرب مباشرة استمر
انخفاض شعبية “بايدن” لدرجة اعتقاد نحو 62% من الأمريكيين أن “بوتين” ما كان له أن
يتحرك ضد أوكرانيا إذا كان “ترامب” رئيساً للولايات المتحدة؛ وذلك في استطلاع
للرأي أجراه مركز هارفارد للدراسات السياسية الأمريكية.
ولكن مع
اشتعال الحرب الأوكرانية، استطاع “بايدن” أن يحول تلك الأزمة لتكون ورقة رابحة في
التفاف الجماهير حوله؛ حيث وافق 42% على أداء “بايدن” الوظيفي بوجه عام، ووافق 52%
على كيفية تعامله مع الحرب الأوكرانية بوجه خاص، كما أيد 83% من الأمريكيين
العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على روسيا وفقاً لاستطلاع NPR–PBS Newshour–Marist. وحظي حظر
الولايات المتحدة واردات النفط الروسي بتأييد 79% من الأمريكيين، وفقاً لاستطلاع
رأي لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
الاستفادة
من تداعيات العقوبات الاقتصادية على روسيا: قامت
الولايات المتحدة، بمساعدة حلفائها الغربيين، بفرض عقوبات قاسية على روسيا،
واستبعادها من نظام سويفت العالمي الذي تستخدمه أكثر من 11 ألف مؤسسة مالية في
مائتي دولة حول العالم، في تحويل وتسوية التعاملات المالية المؤمنة، وتجميد
الأموال الروسية لديها؛ ما أدى إلى تراجع قيمة الروبل الروسي، وارتفاع أسعار
النفط، وتعزيز قوة الدولار، والإسراع في نقل رؤوس الأموال الأوروبية إلى الولايات
المتحدة؛ الأمر الذي وظفته واشنطن بجدارة لاستعادة مكانتها العالمية مرة أخرى،
ورفع معدلات صادراتها من الأسلحة؛ حيث إن من المتوقع أن تشهد الصناعات العسكرية
الأمريكية انتعاشة تاريخية، وسوقاً رائجةً بعد حالة مقلقة من الكساد العسكري خلال
الفترة السابقة للحرب.
وعلى
الرغم من تضرر الاقتصاد الأمريكي من الحرب الروسية على أوكرانيا وفقاً لبعض
التقديرات، فإن هناك اتجاهاً اقتصادياً يعتقد بأن الولايات المتحدة ستجني نسبياً
ثمار زيادة أسعار النفط والغاز الناجمة عن تلك الأزمة؛ حيث ستعتمد الدول الأوروبية
بالأساس على النفط والغاز الأمريكيَّيْن، على حساب الغاز الروسي. وإذا حدث كل ذلك
فسوف تنشط تجارة محطات إسالة الغاز الأمريكي لنقلها إلى أوروبا عبر المحيط
الأطلنطي؛ لعدم وجود خطوط أنابيب بينهما، وبذلك ستصبح الولايات المتحدة المُصدِّر
الأكبر للغاز المسال في العالم؛ إنتاجاً ونقلاً.،كما أن أي تأثير عكسي للعقوبات
الغربية على الاقتصاد الأمريكي، سيكون تأثيراً غير مباشر، يمكن لواشنطن أن تتجاوزه
بالنظر إلى أن الاستراتيجية الأمريكية الحالية في التعامل مع العمليات العسكرية
الروسية ضد أوكرانيا، تتسم بالمرونة وتتجنَّب الصرامة والحزم الضارَّيْن باقتصادها
الوطني.
عزل روسيا
دبلوماسياً على المستوى الدولي: تعرضت
روسيا لعزلة دبلوماسية في الأسابيع الأولى للحرب لم تشهدها حتى في العهد
السوفييتي، وهو الأمر الذي سيؤثر –بلا شك– على حسابات موسكو الدولية على المدى
الطويل؛ حيث جاء التصويت على مشروع قرار الولايات المتحدة لإدانة الهجوم الروسي
لأوكرانيا إيجابياً نوعاً ما لصالح وجهة النظر الأمريكية؛ فمن خلال الضغوط
الدبلوماسية المفرطة، نجحت واشنطن في حشد وتعبئة الأغلبية الساحقة في الجمعية
العامة للأمم المتحدة للتصويت بإدانة العمل العسكري الروسي؛ حيث صوَّتت 4 دول فقط
لصالح روسيا؛ هي: بيلاروسيا، وكوريا الشمالية، وإريتريا، وسوريا، في حين صوتت 141
دولة لصالح مشروع الولايات المتحدة، وامتنعت
35 دولة عن التصويت، منها الصين، لتكون روسيا
أول دولة عضو دائم في مجلس الأمن يتم فرض عقوبات عليها بهذه الطريقة القاسية منذ
الحرب العالمية الثانية.
تهميش
التنافس الاستراتيجي مع الصين: تنطلق
أجندة الرئيس جو بايدن، منذ اليوم الأول له في البيت البيض، من قضيتَيْن
أساسيتَيْن؛ هما: “عودة أمريكا”، والعلاقات مع الصين. وقد استخدام “بايدن” ورقة
تايوان للضغط على الجانب الصيني. ولكن مع اندلاع الحرب الأوكرانية، لم يعد
للمناوشات الصينية–الأمريكية مكان على الساحة الدولية، كما لم يعد باستطاعة
“بايدن” أيضاً التركيز مع الصين كما أراد سابقاً، لكن المكسب يكمن في إقناع واشنطن
بكينَ بالبقاء في المنطقة الرمادية وعدم الانحياز إلى الجانب الروسي بأسلوب مباشر؛
حيث إن امتناع بكين عن التصويت في الأمم المتحدة، على الرغم من خشية واشنطن من
استخدام الصين حقها في الاعتراض “الفيتو” لصالح روسيا، كان له دلالة مهمة على أن
بكين من ناحية تخشى أن ترى نفسها تحت طائلة العقوبات الأمريكية، ومن ناحية أخرى
فإن واشنطن لا تريد أبداً أن تقف بكين بجانب موسكو للتصدي للعقوبات الاقتصادية
الغربية.
كما أن
زيادة أسعار النفط والغاز سوف ترهق ميزانية الصين بالأساس، باعتبارها دولة غير
منتجة للنفط والغاز، ومن ثم، سيعرقل ذلك الأمر الصعود الصيني لسنوات، وهو هدف
أمريكي استراتيجي تسعى إليه واشنطن منذ فترة، وقد زاد الأمر أهميةً بعد التقارير
الدولية التي تحدثت عن أن الصين قد تتمكن من أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى
عالمياً بحلول عام 2030.
تزايد
مساحات التقارب بين أوروبا واشنطن: عملت
إدارة “بايدن” أيضاً على صياغة موقف سياسي أوروبي مُوالٍ للولايات المتحدة خلال
الأزمة الأوكرانية، استغلالاً لكون معظم الحكومات في الدول الأوروبية، قد باتت
أكثر قرباً من المعسكر الأمريكي، بالتزامن مع اختفاء التيارات اليمينية من المشهد
السياسي الأوروبي حتى قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. ومع اندلاع الحرب
الأوكرانية، جنى “بايدن” ثمار هذه السياسة؛ حيث وقفت ألمانيا وفرنسا والمملكة
المتحدة في معسكر واحد بالتنسيق مع الولايات المتحدة في التعامل مع روسيا، كما
تخلَّت سويسرا عن حيادها للمرة الأولى في تاريخها، وهو ما كانت تستهدفه الإدارة
الأمريكية الديمقراطية منذ يومها الأول في البيت الأبيض.
وعلى صعيد
آخر، استفادت الولايات المتحدة من اضطرار أوروبا إلى الإنفاق أكثر على الميزانية
المُخصَّصة للأمن والدفاع، وهو ما سيوفر ما كانت تنفقه الولايات المتحدة؛ حيث كان هذا
هدفاً أمريكياً منذ عهد “ترامب”، الذي حاول مراراً أن يجعل أوروبا وحلف الناتو
يتحمَّلان الجزء الأكبر من الميزانية، ثم جاءت الحرب الأوكرانية لتحقق ذلك لواشنطن
بكل سهولة.
إشغال
روسيا بالأزمات في محيطها الإقليمي: تتبنَّى
الولايات المتحدة استراتيجية جديدة قائمة على تحقيق مصالح على المدى الطويل لا على
التدخل السريع؛ حيث لم تنظر واشنطن إلى الحرب الأوكرانية باعتبارها حرباً عسكرية
بالمعنى التقليدي، لكنها أزمة أدت إلى إشغال روسيا بتأجيج وخلق صراعات في محيطها
الإقليمي كنوع من أنواع الفوضى الخلَّاقة؛ لإنهاك واستفزاز الخصم التقليدي
لواشنطن، وهو ما ظهر في إعلان بلغاريا ودول البلطيق الثلاث: إستونيا، ولاتفيا،
وليتوانيا، أن عدداً من الدبلوماسيين الروس لديها أصبحوا أشخاصاً غير مرغوب فيهم،
وأمرتهم بمغادرة البلاد. في المقابل، أعلنت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية
الروسية ماريا زاخاروفا، أن موسكو سترد على جميع عمليات الطرد غير المبررة
للدبلوماسيين الروس بذات الطريقة، وهو الأمر الذي يحقق الهدف الأمريكي.
خلق أزمات متعددة الجوانب في الداخل الروسي: استطاعت الولايات المتحدة الاستفادة من الحرب الأوكرانية بتعظيم إنهاكها الجانب الروسي داخلياً وليس خارجياً فقط؛ حيث إن واشنطن عملت على خلق أزمات داخلية طويلة الأمد ومتعددة الأبعاد السياسية والاقتصادية والمجتمعية، مثل الأزمات المجتمعية
في
الداخل، والتجفيف الاقتصادي، وصولاً إلى خلق أزمة للقيادة السياسية بتشويهها
وتوريطها أمام الرأي العام الروسي، وهو ما ظهر في تصريحات “بايدن” التي وصف فيها
“بوتين” بأنه “مجرم حرب” و”طاغية”. وكذلك كشف تقرير صحفي أمريكي عن “أزمة” داخل
جهات سيادية روسية، واعتقال مسؤولين استخباراتيين. وأضاف التقرير أن “تبادل
الاتهامات وتوجيه أصابع الاتهام قد بدأ داخل وكالات الاستخبارات الروسية من جهة
ووزارة الدفاع الروسية من جهة أخرى”؛ بمعنى أن العملية العسكرية على أوكرانيا التي
توقعت موسكو أن تُتَوج بسيطرة سريعة على كييف، تحولت إلى بؤرة مكلفة ومحرجة لروسيا
نفسها.
تطويق
السياسات الروسية الخارجية: تهدف
الولايات المتحدة أيضاً إلى تقويض السياسات الروسية، كنوع من أنواع الارتداد
السياسي؛ حتى تكون روسيا بين شقَّي الرحى؛ فكلما امتدت هذه الحرب أصبحت عبئاً على
روسيا. وعلى الرغم من نجاح واشنطن في تحقيق هذا الهدف حتى الآن، فإنه مكسب لا يزال
تحت الاختبار. كما أنه من غير المتوقع أن يُحدِث تقويضاً كاملاً ومستداماً لموسكو،
لكنه فقط نوع من المناوشات السياسية بين البلدين وعودة الصراعات القطبية؛ حيث لم
تعد المواجهة بين روسيا وأوكرانيا فقط، بل أصبحت بين الولايات المتحدة وروسيا على
الأراضي الأوكرانية. ومن ثم، لا يمكن الاعتماد على هذه النتيجة كمكسب سياسي أو حتى
اقتصادي؛ لأن تداعياته لا تزال قيد الاختبار، خاصةً مع وجود آليات أخرى لحل
الأزمة، كالوساطة الفرنسية، وإعادة صيغة نورماندي، وغيرهما من الآليات التي تنفي
مكسب التطويق الاستراتيجي لروسيا.
صعوبة الاستدامة
وختاماً،
ترى الاتجاهات الرئيسية في الولايات المتحدة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم
يستفد من دروس التاريخ في أن الغزو العسكري النظامي التقليدي لا يَقوى على جلب
منافع لأي طرف، سواء من تاريخ الاتحاد السوفييتي السابق، أو حتى من تاريخ خصمه
(الولايات المتحدة)،
في ملفات مثل العراق وأفغانستان، ولا حتى من التراث الروسي، وفقاً للمقولة الروسية
الشهيرة: “لا تعلق كل شيء بمسمار واحد”، لكن “بوتين” رهن كل ما فعله منذ وصوله إلى
السلطة قبل أكثر من عقدين بحرب أوكرانيا. وفي حين أن الحرب لم تنته بعد، وربما
تمتد لسنوات طويلة، فإن ما يبدو اليوم من مكاسب ربما ينقلب لاحقاً إلى خسائر. وعلى
الرغم من تعدد مكاسب الولايات المتحدة حتى الآن من جراء انخراط روسيا في حرب
عسكرية ضد أوكرانيا، فإن من الصعب الجزم باستدامة تلك المكاسب؛ لأنها متوقفة على
تطورات العملية العسكرية الروسية التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، وكذلك
تداعياتها السياسية والاقتصادية على كافة الأصعدة الداخلية والأوروبية والدولية.
تعليقات
إرسال تعليق